العسل في القرآن الكريم والسنة النبوية
لقد كرم الله سبحانه وتعالى النحل في كتابه الكريم أيما تكريم.. وبلغ هذا التكريم منتهاه حين خصص الحق سبحانه وتعالى سورة في القرآن الكريم عُرفت باسم (سورة النحل).. وفيها يقول ربنا جلا وعلا: “وَأوحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ {68} ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَأنُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ أنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ“.
والوحي هنا بمعنى الإلهام.
ولقد أنزلت السنة المطهرة النحل منزلة عالية، يقول النبي ﷺ : (الذبان كلها في النار يجعلها الله عذابًا لأهل النار، إلا النحل).
ويُشبه النبي ﷺ المؤمن بالنحلة في قوله: (المؤمن كالنحلة: تأكل طيبًا، وتضع طيبًا، وقعت فلم تكسر ولم تفسد).
ويُثني النبي ﷺ على بلال فيقول: (مثل بلال كمثل النحلة غدت تأكل الحلو والمر، ثم هو حلو كله).
يقول ابن الأثير: وجه المشابهة بين المؤمن والنحلة: حذق النحل وفطنته، وقلة أذاه، ومنفعته، وقنوعه، وسعيه في النهار، وتنزهه عن الأقذار، وطيب أكله، وأنه لا يأكل من كسب غيره، وطاعته لأميره وأن النحل آفات تقطعه عن عمله منها: الظلمة، والغيم، والريح، والدخان، والنار كذلك المؤمن له آفات تقطعه عن عمله منها: ظلمة الغفلة، وغيم الشك، وريح الفتنة، ودخان الحرام، ونار الهوى. وإيمانًا بقوله تعالى: “يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَأنُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ” كان النبي ﷺ يصف العسل للشفاء من كل داء: ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رجلًا أتى النبي ﷺ فقال: إن أخي يشتكي بطنه– وفي رواية: استطلق بطنه– فقال النبي ﷺ : (اسقه عسلًا). فذهب ثم رجع، فقال: قد سقيته فلم يُغن عنه شيئًا- وفي لفظ: فلم يزده إلا استطلاقًا- مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يقول له: (اسقه عسلًا) فقال له في الثالثة والرابعة: (صدق الله وكذب بطن أخيك).
وفي رواية في صحيح مسلم: إن أخي عرب بطنه. أي فسد هضمه، واعتلت معدته.
يقول الإمام ابن القيم في كتابه (زاد المعاد جــ 4 ص 33) في شرح هذا الحديث:
العسل غذاء مع الأغذية، ودواء مع الأدوية، وشراب مع الأشربة، وحلو مع الحلوى، وطلاء مع الأطلية، ومفرح مع المفرحات، فما خلق لنا شيء في معناه أفضل منه، ولا مثله، ولا قريبًا منه، ولم يكن مُعول القدماء إلا عليه، وأكثر كُتب القدماء لا ذكر فيها للسكر البتة، ولا يعرفونه، فإنه حديث عهد حدث قريبًا، وكان النبي r يشربه بالماء على الريق.
وفي سنن ابن ماجه مرفوعًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : (من لعق العسل ثلاث غدوات كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء).
وفي أثر آخر: (عليكم بالشفاءين: القرآن والعسل) فجمع بين الطب البشري والطب الآلهي، وبين طب الأبدان وطب الأرواح، وبين الدواء الأرضي والدواء السماوي.
وإذا عُرف هذا، فهذا الذي وصف له النبي ﷺ العسل كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته عن امتلاء، فأمره بشرب العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء، فأن العسل فيه جلاء ودفع للفضول، وكان قد أصاب المعدة أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيها للزوجتها، فأن المعدة لها حمل كحمل القطيفة، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء، فدواؤها بما يجلوها من تلك الأخلاط، والعسل جلاء، والعسل من أحسن ما عُولج به هذا الداء، لا سيما إذا مزج بالماء الحار.
وفي تكرار سقيه معنى طبي بديع، وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب حال الداء، إن قصر عنه لم يزله بالكلية، وإن جاوزه أوهى القوى فأحدث ضررًا آخر، فلما أمره أن يسقيه العسل سقاه مقدارًا لا يفي بمقاومة الداء ولا يبلغ الغرض، فلما أخبره علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة، فلما تكرر ترداده إلى النبي r أكد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برًا بإذن الله تعالى، واعتبار مقادير الأدوية وكيفياتها ومقدار وقوة المرض والمريض من أكبر قواعد الطب.
وفي قوله النبي ﷺ : (صدق الله وكذب بطن أخيك) إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء، وأن بقاء الداء ليس في نفسه، ولكن لكذب البطن، وكثرة المادة الفاسدة فيها، فأمر بتكرار الدواء لكثرة المادة.
وليس طًبة ﷺ كطب الأطباء، فإن طب النبي ﷺ قطعي إلهي، صادر عن الوحي، ومشكاة النبوة وكمال العقل وطب غيره أكثره حدًس وظنون وتجارب.
ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضي بطب النبوة، فإنه إنماء ينتفع به من تلقه بالقبول واعتقاد الشفاء فيه، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان، فهذا القرآن الذي هو شفاء لما فى الصدور إن لم يُتلق هذا التلقي لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها بل لا يزيد المنافقين إلا رجسًا إلى رجسهم ومرضًا إلى مرضهم، وأين يقع طب الأبدان منه؟
فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية، فإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن الإستشقاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع، وليس ذلك لقصور فى الدواء ولكن لخبص الطبيعة وفساد المحل وعدم قبوله، والله الموفق.
من هذا الأثر يبدو لنا يقين الرسول ﷺ أمام ما بدا واقعاً عملياً من استطلاق بطن الرجل كلما سقاه أخوه وقد انتهي هذا اليقين بتصديق الواقع له فى النهاية وهكذا يجب أن يكون يقين المسلم بكل قضية وبكل حقيقة وردت فى كتاب الله عز وجل، ومهما بدا فى ظاهر الأمر أن ما يُسمي الواقع يخالفها، إن معجزات القرآن لا تزال تري وإن العلم ليُطلعنا بين الحين والحين على الكثير منها.
وصدق رسول الله ﷺ : (خير الدواء العسل) فهو يغني الطبيب، وعن غرفة العمليات، وعن الصيدلية، فإذا أيقن المريض أن فى العسل شفاءه، كان الله عند يقينه، وشفاه وعافاه من كل داء هكذا كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه : حين اتخذ العسل علاجاً لكل داء وأخذ يوزعه مجاناً على فقراء المرضي، ويقول لهم ما قاله الرسول ﷺ : (عليكم بالعسل فهو خير دواء) ولما سُل ذات يوم: أليس عندك غير العسل؟ قال: إنه الشفاء وكل ويقينه. وكتاب الله سبحانه بين أيدينا يقول فيه ربنا: “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ” ويقول عن النحل: “ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَأنُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ أنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ“. فهذه دعوة إلى التفكر والتأمل والبحث والدراسة.
قبل أن نتكلم عن العسل كغذاء وشفاء وإتماماً للفائدة، فسوف نتعرض بتوفيق الله سبحانه- وبشيء من الإيجاز إلى مجتمع النحل ، ومكوناته، وكيف يقوم النحل بجمع الرحيق، وكيف يتم تحويل هذا الرحيق إلى عسل.
Leave a Comment